في يوم العيد ، وفي صباحه المشرق ، اختالت المعاني في ذهني ، وعشت حالة من الفرح اجتالت في قلبي كادت أن تطير بي إلى عالم الأشواق ، فترامت معاني كبيرة في خاطري فرأيت أن أشركك فيها ، وأوصلها إلى مسمعك ، وأنا أرى أنك خير مني في ذلك كله ، لكنني خاطبت بها نفسي أولاً ، فرأيت ألا أحرمك من آثارها ثانياً ، فإليك هذه المشاعر بكل ما فيها ، سائلاً الله تعالى أن يجعلني وإياك من المتبعين .
من العادين ، وكل عام وأنتم بخير ، تصلك وأنت في آفاق الدنيا كلها لتعبّر لك عن مشاعري الفياضة لك ، فلا حرمك الله التوفيق ، وزان أيامك بالمسرات . .
يا ليلة العيد كم في العيد من عبر *** لمن أراد رشاد العقل والبشر
إن هذه الفرحة تأتي ضمن سياق هذا الدين الذي أراد الله تعالى أن تكون فيه أيام يعبّر الإنسان فيها عن أفراحه وأشواقه ، ويلتقي فيها المسلمون على ضفاف هذا الفرح ، ويلغون من حساباتهم كل ما يمكن أن يحول بين أفراحهم في مثل هذه الأيام .
أيها الحبيب :
هاهو نبيك صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ووجدهم يلعبون في يومين فقال ما هذان اليومان ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم : قد أبدلكما الله خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى . ودخل صلى الله عليه وسلم يوم عيد على عائشة وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال :مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : دعهما .
وأنت ترى في هذه الصورة تلك المساحة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة والجاريتين للتعبير عن أفراحهما في مثل هذا اليوم من أيام الفرح والمسرات . حتى قال الحافظ : وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة ... وفيه : أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين . اهـ وليس في الحديث كما يبدو للبعض إباحة للغناء ، كلا ! فإن الحافظ رحمه الله قد قال معلقاً : تغنيان أي تدففان تضربان بالدف وفي رواية مسلم تغنيان بدف ، قلت : وهو جائز للنساء كما تعلم ، قال الحافظ : يقال الدف ، ويقال الكربال وهو الذي لا جلاجل فيه ، وإنما قال أبو بكر مزمارة الشيطان ومقصوده يعني الغناء أو الدف لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير ، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء . اهـ وغير خاف عليك ـ لا حرمك الله التوفيق ـ أن الغناء نوع من العبث في يوم العيد ، وتعبير مشوّه للعيد في أعظم معانيه .
قالت عائشة رضي الله عنها : وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدّرَق والحراب فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما قال : تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه خدّي على خده وهو يقول : دونكم يابني أرفدةَ . حتى إذا مللت قال : حسبك ؟ قلت : نعم ، قال فاذهبي .
أيها الحبيب :
هاهو دين الإسلام يفسح للإنسان اليوم بالذات مشاعر الفرح والسرور والألق ليعانق الدنيا بأسرها أفراحاً ومسرات ، فيا لله أي دين أرعى للقلوب والمشاعر من هذا الدين ؟ اليوم فرحة تخالج قلب كل مؤمن بالله تعالى ، اليوم روعة الحب ، وأعظم معانيه ، والمشاعر تكتض في ساحات العيد فتعيش أروع أيامها على الإطلاق .
في العيد فسحة كبيرة لنفرح ونسر مهما كانت ظروفنا المحيطة بنا .
إن سر فرحتنا اليوم هو نجاح الإنسان في عبودية ربه تبارك وتعالى ، وانطلاقه من أسر الشهوة إلى عالم الانقياد الحقيقي لربه ، هذا هو المعنى الكبير الذي يجتال قلوبنا فيسرح بها في عالم الأفراح .
أيها الحبيب :
هل من حقنا الفرح وإخواننا في بلاد المسلمين يمثلهم قول الشاعر :
أنى اتجهت للإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
فأقول : نعم من حقنا أن نفرح ونبتهج ونسر فهاذه أيام عيدنا ، من حقنا أن نفرح لأن قلة مؤمنة في أرض فلسطين استطاعت بتوفيق الله تعالى أن تصمد حقباً من التاريخ طويلة ضد أمم الأرض كلها ، صمدت وليس في يدها سوى حجراً ، لكن في قلبها إيمان يتدفق ، وروح تتألّق ، وقلوب تطلب الشهادة ... من حقنا أن نفرح وأهل السنة العزّل في العراق أثبتوا لأمم الأرض أن القوة الحقيقية ليست في السلاح ، ولا العتاد ، كلا ! لكنها في الإرادة الصُّلبة ، وفي العزيمة القوية ، ووقف الشعب الأعزل أمام أعتى قوة في التاريخ الحاضر ليقول لها : على رسلك فأمامك رجال يحجبون جبروت السلاح بأجسادهم ، ويغسلون وهن الذل بدمائهم .
من حقنا أن نفرح لأن الغرب كله وقف اليوم ذليلاً حقيراً مع كل ما يملك ، وأبانت له الشعوب المسلمة أن الأمة لا تموت بموت رجالها ، وإنما تموت بموت قيمها ومبادئها .
يكفينا هذا المعنى فرحاً ، ويجعلنا نخرج مأتلقين بهذه الإنجازات التي يسجلها التاريخ بمداد من ذهب ..
أيها الحبيب :
في العيد فسحة اليوم ليعانق المريض عيده بصدق ، ويخرج من كبوة المرض ليعيش في عالم السعداء ، قم يا أيها المريض ممتطياً عقيدة لا توهنها الأمراض ، ولا تعيقها الأحداث ، قم واعلم أن الذي أمرضك هو ربك ، والذي أقعدك هو مولاك ، والذي حبسك في ظروفك هو خالقك ، أتظن أنها نقمة ، ومجرد بلاء ، ومشقة ، وعنت ، إن كنت كذلك فإنك رسبت في امتحان الإيمان ، وسقط في ضعف التوكل ، كلا ! إن ربك اليوم بهذا المرض نظر إليك فرآك عبداً ضعيفاً مؤمناً صادقاً ، فأراد أن يرفع مقامك ويعلي شأنك ، فيرحل بك إلى عالم المؤمنين الأصفياء .
يا أيها المريض : ألم يبلغك قول ربك تعالى : "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ". ألم يصل إلى مسمعك أيها الحبيب قول نبيك صلى الله عليه وسلم : ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا هم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه . ألم يبلغك بعد أن نبيك صلى الله عليه وسلم قال : ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة .
إذاً فلماذا تسقط في وحل المرض ، وتستسلم لوساوس الشيطان ، وتذهب بك الأفكار إلى موارد الهلاك . قم أيها الممنوح بهذه النعم فنعم الله تتوارد عليك اليوم لتسقيك رحيقاً سلسبيلاً في قادم الأيام . قم فلو لم يكن في المرض إلا تنبيهك إلى أن هناك رب يمرض ويشفي ، ويسقم ويصح لكان كافياً . قم إلى ربك وتلمّس مواطن الرحمة ، وعفّر وجهك في التراب آمناً مطمئناً وألح عليه في الدعاء فذلك أوسع مداخل الفرج . واحذر يارعاك الله من الإلتجاء إلى غيره ، أو السكون إلى سواه ، فأنت في اختبار عظيم قد يبطئ العلاج ليرى الله صلب عقيدتك من ضحالتها .
الأمراض والبلواء درس عظيم واختبار للقلوب العابدة الساجدة أهي تتعبّد لله تعالى أو تسكن لسواه . قم فقد قرب الفرج .
يا أيتها الأسرة المكلومة بفقد معيلها أو قريبها إياكم ثم إياكم أن يهيّج الشيطان لكم اليوم أيام النوح والبكاء والصغار أمام القَدَر ، من حقكم اليوم أن تفرحوا ، فالذين رحلوا من دياركم رحلوا إلى لقاء ربهم اللطيف بهم ، وغداً بإذن الله على الحوض ستلقون أحبابكم ، وفي عرصات الجنان اللقاء بأصحابكم ، قوموا اركلوا كل هاجس يداهم قلوبكم .