نشأ الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه في أرض دوس في تهامة بالحجاز،بين أسرة شريفة كريمة، ودانت له السيادة
على قبيلته دوس ، نظراً للسمات الشخصية التي تحلى بها، فقد كان الطفيل أحد أصحاب المروءات بين العرب، وأكرم الناس،
فلا يرد سؤال سائل فيطعم الجائع ويؤمن الخائف ويجير المستجير، كما أوتي موهب الشعر فذاع صيته بين القبائل. وقد غادر الطفيل
منازل قومه في تهامة إلى مكة ولم يكن يدري عن ماهية الصراع القائم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش ووجد الطفيل نفسه
وسط هذا الصراع من دون قصد، فدخل هذه المعركة وخاض غمارها.
إسلام الطفيل
يقول رضي الله عنه في ذلك: “عندما قدمت مكة ورآني سادة قريش، أقبلوا عليّ فرحبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني فيهم أعز منزل.
ثم اجتمع سادتهم وكبراؤهم وقالوا:
يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل يزعم أنه نبي، قد أفسد أمرنا ومزق شملنا وشتت جماعتنا، ونحن نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك
ما حل بنا، فلا تكلم هذا الرجل ولا تسمع منه شيئاً. فإن له قولاً كالسحر، يفرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه.
قال الطفيل:فوالله مازالوا بي يقصون علي من غرائب أخباره، ويخوفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله، حتى عزمت على ألا أقترب منه،
وألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً.ولما غدوت إلى المسجد للطواف بالكعبة، ولأتبرك بأصنامها التي كنا نحج إليها ونعظمها، سددت أذني كي لا يلامس
سمعي شيء من قول محمد.لكنني ما إن دخلت المسجد حتى وجدته قائماً يصلي عند الكعبة صلاة غير صلاتنا ويتعبد عبادة غير عبادتنا، فأثر فيّ منظره،
وهزتني عبادته ووجدت نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت قريباً منه.وأراد الله أن يصل لسمعي بعض مما يقول محمد، فسمعت كلاماً حسناً وقلت لنفسي:
ثكلتك أمك يا طفيل.. إنك لرجل لبيب تعرف الحسن من القبيح فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول..
فإن كان حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته؟ ثم قال الطفيل: مكثت حتى انصرف محمد لبيته، فتتبعته حتى دخل داره ثم دخلت عليه، فقلت:
يا محمد، إن قومك قالوا لي عنك كذا وكذا، فوالله صاروا يخوفونني من أمرك حتى سددت أذني لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني شيئاً منه، فوجدته حسناً.
فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ أمره وقرأ ليس سورة الإخلاص والفلق، فوالله ما سمعت قولاً أحسن من قوله، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره.
عند ذلك بسطت يدي له وشهدت أن لا إلا إلا الله وأن محمداً رسول الله ودخلت في الإسلام”.وصدق فيه رضي الله عنه قول الله تعالى
يسمعون القول فيتبعون أحسنه).
هالة من نور
أقام بعدها الطفيل في مكة زمناً تعلم فيه أمور الإسلام وحفظ ما تيسر له من القرآن، ولما عزم العودة لقومه قال للرسول: “
يا رسول الله إنني امرؤ مطاع في عشيرتي وأنا راجع إليهم وداعيهم للإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه”، فدعا له وقال:
“اللهم اجعل له آية”.فخرج لقومه حتى إذا كان في موضع مشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينيه رضي الله عنه مثل المصباح المنير.
فلما رأى ذلك.. قال: “اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم” فتحول النور فوقع في رأسه،
فجعل الناس يتراؤون ذلك النور كالقنديل أو كالهالة المعلقة فوق رأسه، وهو يهبط إليهم من العقبة، فلما نزل أتاه أبوه، فقال له الطفيل:
“إليك عني يا ابتي، فلست منك ولست مني”. فقال له: “ولم يا بني؟” فقال الطفيل: “لقد أسلمت وتبعت دين محمد”. فقال الوالد:
“أي بني، ديني دينك”. فقال له الطفيل:“اذهب واغتسل وطهر ثيابك، ثم تعالى حتى أعلمك ما عُلمت”. فذهب فاغتسل، ثم جاءه فعرض عليه الإسلام فأسلم.
ثم جاءته زوجته فقال لها ما قال لأبيه فقالت له:“بأبي أنت وأمي” فذهبت واغتسلت، ثم جاءته فعرض عليها الإسلام فأسلمت.
ثم دعا قومه دوساً فأبطأوا عليه إلا أبا هريرة، فكان أسرع الناس إسلاماً. ويكاد يكفي الطفيل خيراً أن أسلم على يديه أشهر من روى الحديث عن
الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام التالي أتى الطفيل مكة، ومعه أبوهريرة، فلما رآهما النبي قال: “ما وراءك يا طفيل؟” فقال له الطفيل:
“يا رسول الله قلوب عليها أكنة وكفر شديد.. لقد غلب على دوس الفسق العصيان”. فقام رسول الله فتوضأ وصلى، فقال أبوهريرة:
“فلما رأيته كذلك خفت أن يدعو على قومي فيهلكوا.. فقلت: “واقوماه” لكن الرسول الذي عرف بالرحمة ما كان ليفعل ذلك بل قال:
“اللهم اهدِ دوساً.. وأت بهم مسلمين” ثلاثاً.ثم التفت للطفيل وقال: “ارجع لقومك وارفق بهم وادعوهم إلى الإسلام”. قال الطفيل:
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر الرسول للمدينة ومضت بدر وأحد والخندق، فقدمت على النبي ومعي ثمانون بيتاً من دوس أسلموا.
فسر بنا الرسول وأعطانا مع المسلمين من غنائم خيبر.
رؤيا صادقة
وبعدها طلب الطفيل من الرسول أن يجعله ميمنته في كل غزوة يغزوها، ولم يزل مع رسول الله حتى فتح الله عليه مكة فقال له: “يا رسول الله،
ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمر بن حممة حتى أحرقه”فأذن له النبي، فسار إلى الصنم في سرية من قومه. فلما بلغه، وهم بإحراقه اجتمع حوله
النساء والرجال والأطفال ينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ذا الكفين بضر. لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُباده
المشركين وجعل يشعل النار في قلبه وهو يرتجز: “يا ذا الكفين لست من عُبادك، ميلادنا أقوم من ميلادك، إني حشوت النار في فؤادك”.
وما إن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك في قبيلة دوس
فأسلم القوم جميعاً وحسن إسلامهم وأجاب الله دعاء رسوله للطفيل. ومنذ ذلك الوقت ظل الطفيل بن عمرو الدوسي ملازماً لرسول الله حتى وفاته.
ولما آلت الخلافة إلى صاحبه الصديق أبي بكر، وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله. وعندما اندلعت حروب الردة خرج الطفيل
في طليعة الجيش لحرب مسيلمة الكذاب، ومعه ابنه عمرو وفي طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا، فقال لأصحابه: “إنني رأيت رؤيا فعبروها لي -
أي فسروها لي -” فقالوا: “وما رأيت؟” قال: “رأيت أن رأسي قد حُلق، وأن طائراً خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها،
وأن ابن عمرو جعل يطلبني حثيثاً لكنه وضع حائل بيني وبينه”. فقالوا: “خيراً”. فقال: “أما أنا والله لقد أولتها.. أما حلق رأسي فذلك أن يقطع..
وأما الطائر الذي خرج من فمي فهي روحي..وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تحفر لي لأدفن في جوفها.. وإني لأرجو أن أُقتل شهيداً.
وأما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها - إذا أذن الله - لكنه يدركها فيما بعد”.وفي معركة اليمامة استشهد الصحابي الجليل
الطفيل بن عمرو الدوسي، على أرض المعركة، وأما ابنه عمرو فظل يقاتل حتى أوهنت قواه الجراح وقطعت كفه اليمنى فعاد إلى المدينة مخلفاً على أرض اليمامة أباه وكفه.
وظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارق أباه، فلما كانت معركة اليرموك، بادر عمرو إليها وما زال يقاتل حتى أدرك الشهادة التي تمناها له أبوه. رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسي، فهو الشهيد وأبوالشهيد.