تأخذ المواضيع الاجتماعية في هذا العصر حيزاً مهماً من اهتمامات المسلمين على مختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية ، لما يحصل فيه من تجاوزات في هذه المجالات لم تكن تحصل في العصور الإسلامية السابقة ، حيث بدأت تظهر في المجتمع الإسلامي عادات اجتماعية بعيدة عن الإسلام وتعاليمه .
ومن هذه العادات تلك المتعلقة بالعائلة وبكيان الأسرة الإسلامية ، كعادة تأخير الزواج ، وعادة إطالة الخطبة ثم فسخها بعد فترة زمنية غير قصيرة ، لدرجة أنه أصبح من الأمر العادي أن يمر كل من الفتاة والشاب بتجربة خطبة أو أكثر دون أن يشكل هذا الأمر أي إحراج لهما أو للمحيطين بهما !
وفي محاولة لدراسة أسباب هذه الظواهر ، لا بد في البداية من تحليل بسيط لأسباب نجاح الزواج قديماً ومقارنة هذه الأسباب بالأوضاع الحالية .
والواقع أن الأمر جد بسيط ويمكن تلخيصه بجملة واحدة هي : " تمسك الأوائل بدينهم وتطبيقهم لتعاليمـه "، فقد قام هؤلاء بالالتزام بأحكام الشرع دون الالتفات إلى الشعارات وباليقين بصلاحية هذه الأحكام ، فالفرق إذاً واضح بين القدامى والمعاصرين ، إذ أن الأمر يتعلق بالإيمان وضعف الإيمان ، بالعقيدة والتسليم هناك ، وبالضعف والانهزام هنا.
وقد كان من أثر تمسك هؤلاء الأوائل بدينهم أن أدركوا كل ما يتعلق بهذا الدين في مختلف نواحي الحياة الدنيوية والأخروية ، فكان مما أدركوا من الناحية الدنيوية دور مؤسسة الزواج في تأمين سعادة الفرد والمجتمع ، وتكون سعادة الفرد في إشباع الشهوة عن طريق الحلال و في الحصول على السكن والمودة ، كما تكون سعادة المجتمع في استمرار النسل وبقاء النوع البشري ، وفي حفظ أمن المجتمع من التعديات وخلط الأنساب ونشر الأمراض والجرائم ، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :" إذا أتاكم من تَرْضَوْنَ خلقه ودينه فزوجوه ، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " رواه الترمذي .
هذا باختصار أهم أهداف الزواج كما وردت في الإسلام ، وقد ورد ذكرها هنا كمقدمة قبل الانتقال إلى ذكر أسباب تيسير الخطبة في العصر القديم وتعسيرها في العصر الحديث .
يسر الخِطبة في العصر القديم :
أدرك المسلمون الأوائل ارتباط الزواج بالشرع فلم يفصلوا بينهما كما يفعل بعض المعاصرين الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة ، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل من الزواج نصف الدين فقال : " إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين ، فليتق الله في النصف الباقي "رواه البيهقي .
لهذا كان هؤلاء يسارعون إلى تزويج أبنائهم إكمالاً لنصف دينهم ، وتنفيذاً لأوامر الله عز وجل واتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الذي جعل مسؤولية فساد الولد تقع على الأهل في حال إخلالهم بواجباتهم تجاه أبنائهم ، فقال عليه الصلاة والسلام: " من بلغ ولده النكاح وعنده ما يُنكحه فلم يُنكحه ثم أحدث حدثاً ، فالإثم عليه "رواه الديلمي عن ابن عباس .
وقد كان لهؤلاء الأوائل معاييرهم الإسلامية في اختيار الزوج وفي تيسير أمر زواج بناتهم ، ومن هذه المعايير :
-1- الإسراع في تزويج المرأة الخالية من الزوج ، تنفيذاً لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ثلاث يا علي لا تؤخرها : الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت ، والأيِّم إذا وجدت كفــؤاً" رواه الترمذي .
-2- البحث عن التقوى ، فلم يرغب الصحابي لابنته إلا في الزوج التقي ، لعلمه أن التقي لا يظلم ، فقد قال رجل للحسن رضي الله عنه : " قد خطب ابنتي جماعة فمن أزوجها؟ قال : ممن يتقي الله ، فإن أحبها أكرمها ، وإن أبغضها لم يظلمها " الإمام الغزالي ، احياء علوم الدين ، ج2 ، ص41 .
-3- تخفيف المهور ، حيث كانوا يتبعون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر ، فهو القائل : " خير الصَّداق أيسره " رواه الحاكم .
-4- عَرْضُ الصحابة والتابعين بناتهم للزواج على من يجدون فيه خيراً وصلاحاً ، وعدم اعتبار هذا الأمر مشيناً بكرامة الفتاة ، وكرامة الوالد ، وهذا الأمر لم يفعله صغار القوم ، كما قد يتراءى لبعض الناس ، بل فعله كبارهم ، كعمر بن الخطاب وسعيد بن المسيِّب رضي الله عنهما .
-5- عرض المرأة نفسها على من ترى فيه صلاحاً ، وعدم استهجان الرجال الصالحين هذا الأمر ، فقد ورد في صحيح البخاري عن ثابت البناني أنه قال :
" كنت عند أنس وعنده ابنة له ، قال أنس : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها قالت : يا رسول الله ، ألك بي حاجة ؟ فقالت بنت أنس : ما أقل حياءها ، واسوأتاه ، قال : هي خيرٌ منك ، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها " رواه البخاري .
-6- إعانة طالبي الزواج التزاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال :
" ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " رواه النسائي وابن ماجه .
لهذه الأسباب ولأسباب أخرى لا يمكن حصرها في هذه العجالة ، كان الزواج في تلك العصور زواجاً ميسراً ومباركاً ، لأن من كان مع الله فإن الله معه وهؤلاء رجال قال فيهم الله عز وجل :" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " سورة الأحزاب ، آية 23 .
عسر الخِطبة في العصر الحالي :
يستطيع المتتبع لأحوال المسلمين اليوم أن يلحظ الفشل والتراجع الذي طال حياتهم الدينية، والاجتماعية والاقتصادية ، وقد تفاقم هذا الفشل حتى أصبح من السهل على الإنسان العادي أن يلحظه ويبدي تخوفاً من تفاقمه .
وقد حصر رسول الله عليه الصلاة والسلام أسباب التراجع والضلال في حياة المسلم بسببين هامين فقال صلى الله عليه وسلم :" تركت فيكم شيئين ، لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " رواه الحاكم .
وقال عليه الصلاة والسلام : " لتتبعن سُنَنَ من قبلكم ، شبراً بشبر ، أوذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضبّ لسلكتموه ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " رواه احمد .
ففي هذين الحديثين يلخص الرسول عليه الصلاة والسلام سبب الضلال والشقاء الذي يعاني منه المسلمون اليوم ، إذ أنهم يواجهون صعوبات ما كانت لتكون لو أنهم التزموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وما كانت لتكون لو أنهم تركوا اتِّباع غير المسلمين والتزموا بمنهج الله عز وجل .
ومن آثار هذا التراجع ما يشهده المجتمع الإسلامي من فشل في الزواج ، بل وفشل في مقدمة الزواج وهي الخِطبة ، وما يرافق هذا الأمر من فساد أخلاقي واجتماعي واسع حيث بدأ يرافق الخِطبة في بعض الحالات اختلاط وإباحية قد تصل في بعض الأحيان إلى الزنا والفجور.
وفي محاولة لمعرفة أسباب تعسير عملية الزواج ، و فشل الخِطبة بين الشباب ، يمكن ملاحظة الأسباب التالية :
أولاً : ترك كثير من الأهل اتباع سنة الإسراع في تزويج الفتاة والشاب التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أصبح سن الزواج في هذا ا العصر يبدأ بمنتصف العشرينيات بالنسبة للفتاة ومنتصف الثلاثينيات بالنسبة للشباب ، ودوافع هذا التأخير متنوعة أبرزها :