المدينة المنورة
جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي حراما يأوي إليه ، وقد جعل الله تعالى لرسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، المدينة حرما آمنا ، مدينة اشتعلت نورا وضياء يوم دخلها رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، مهاجرا إليها ، وجعل فيها من البركة أضعاف ما جعل في مكة المكرمة ، فالمدينة سيدة البلدان ، وهي دار الهجرة والسنة ، وهي دار الإيمان ، حرسها الله سبحانه وتعالى بالملائكة الكرام فلا تدخلها الخبائث ، فهي تنفي عن نفسها الخبث ، كما ينفي الكير خبث الحديد . ولمدينة رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، أسماء عديدة مما يدل على زيادة شرفها وفضلها فمن أسمائها : المدينة ، وقد سماها بهذا الاسم رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، عند دخولها . فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم: " أمرت بقرية تأكل القرى ن يقولون يثرب ن وهي المدينة ، تنفي الخبث ، كما ينفي الكير خبث الحديد " . ومن أسائها طيبة وطابة وسميت كذلك لطهارة تربتها ، وقد سماها بهذا الاسم رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، بقوله : " هذه طابة ، وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه " . ومن أسمائها الأخرى : البحرة ، والدرع الحصينة ودار الهجرة وذات النخل ودار الإيمان والقرية والمحفوظة وغيرها من الأسماء . أما اسمها قبل مجيء رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم فهو : يثرب وهو اسم مستقج ، لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة ، أو من الثرب ، وهو الفساد ، لذلك نهى رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، عن إطلاق هذا الاسم على المدينة المنورة ، فعن البراء بن عازب ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم : " من سمى المدينة يثرب ، فليستغفر الله عز وجل ن هي طابة ، هي طابة " . أما ورودها في القرآن الكريم باسم يثرب ، فهو من قول المنافقين ، وذلك كما في قوله
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا
وتقع المدينة المنورة في سهل خصب ، يحيط بها النخيل والمزروعات ، التي تسقى من الآبار ذات المياه الغزيرة ، وأعذب المياه هناك ، مياه أبار العتيق ، أما المسجد النبوي فيقع في وسطها ، وقبر رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، شرقي المسجد ، وإلى جانب قبره قبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، وكان يسكن المدينة بعض اليهود الذين هاجروا إليها من فلسطين وأشهرهم : بنو النضير ، وبنو قريظة ، وبنو قينقاع ، الذين أقاموا فيها أقاموا فيها الحصون والقصور ، وعملوا مع أهل الحجاز في التجارة على ربا يأخذوه منهم ، أما يهود خيبر وتيماء ووادي القرى ، فإنهم هاجروا من بلاد اليمن ، فبنوا أيضا القلاع والحصون ، أما الأوس والخزرج فهما من أسرة واحدة ، فارقت الغساسنة والناذرة ، بعد خراب سد مأرب ، ونزلت مدينة يثرب ، ثم اختلطت هذه الأسرة مع اليهود ، وتعاملوا معهم وتحالفوا ، إلى أن من الله سبحانه وتعالى عليهم بالإسلام ، بعد أن دبت الخلافات فيما بينهم ، وثارت المعارك ، وكان آخر حروبهم يوم بعاث ، وكان اليهود دور كبير في إشعال نار الفتنة بين أولاد العم ، حتى ملوا الحرب والقتال وتنادى الطرفان لوقف القتال وإعلان الصلح ، واتفقا على تتويج عبد الله بن أبي ملكا عليهم وذلك قبيل دخول رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، المدينة المنورة ، ولكن التتويج لم يحصل ، مما أثار حقد وغضب عبد الله بن أبي ، على رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي منع تتويجه ، فدخل في الإسلام كارها حاسدا ، حاملا الحقد والبغي للمسلمين ، يكيد لهم المؤامرات ، ويسعى للفتنة فيما بينهم حتى لقب برأس المنافقين ، كما ابتلى الله المسلمين في مكة بالمشركين ، كذلك ابتلاهم في المدينة باليهود ، الذين كانوا على خلاف دائم مع العرب ، والذين كانوا يهددونهم بقرب ظهور بنبي جديد ، يؤمنون به ، حيث إنهم كانوا أهل كتاب ، والعرب وثنيون ، فلما جاء رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى المدينة كفروا به ولم يؤمنوا برسالته حسدا وبغيا ، فكيف تكون الرسالة في ولد إسماعيل عليه السلام ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى في حقهم
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
ولكن الأوضاع في المدينة انقلبت رأسا على عقب ، بعد دخول رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، واتشار الإسلام فيها ودخول الأوس والخزرج في الإسلام والذي وحد رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، اسمها ولقبها بالأنصار ، فانتشر الأمن والأمان ، وتآخى المهاجرون والأنصار ، وبدأ عهد جديد ، قويت فيه شوكة الإسلام ، وأقام رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، الدعائم المتينة لبدء انطلاق الإسلام وانتشاره في كافة أنحاء الجزيرة العربية ، حتى إن بعض اليهود دخلوا في الإسلام ومن أشهرهم عبد الله بن سلام القينقاعي ، الذي هب إليه مسرعا ، عندما سمع بمقدمه إلى المدينة وقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . وكانت وفود المسلمين تتتالى من مكة هاربة بدينها سرا ، لتلحق رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن جملة هؤلاء الذين لحقوا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، ابنتاه: فاطمة الزهراء وأم كلثوم ، رضي الله عنهما وزوجتاه : سودة بنت زمعة وعائشة بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، وأمها أم رومان وآل أبي بكر ومعهم أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ، وكان رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، قد بعث زيد بن حارثة وأبا رافع ، ليأتيا بهم من مكة ، والذين غادروها ليلا خشية المشركين