فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله )
(حدثنا عبد الله بن محمد المسندي قال حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة قال حدثنا شعبة عن واقد بن محمد قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )
الشرح:
قوله : ( أمرت )
أي : أمرني الله ; لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله , وقياسه في الصحابي إذا قال أمرت فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر , وإذا قاله التابعي احتمل . والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس .
قوله : ( أن أقاتل )
أي : بأن أقاتل , وحذف الجار من " أن " كثير .
قوله : ( حتى يشهدوا )
جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر , فمقتضاه أن من شهد وأقام وآتى عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام , والجواب أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به , مع أن نص الحديث وهو قوله " إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك . فإن قيل : فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة ؟ فالجواب أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما ; لأنهما إما العبادات البدنية والمالية .
قوله : ( ويقيموا الصلاة )
أي : يداوموا على الإتيان بها بشروطها , من قامت السوق إذا نفقت , وقامت الحرب إذا اشتد القتال . أو المراد بالقيام الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها . والمراد بالصلاة المفروض منها , لا جنسها , فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها . وقال الشيخ محيي الدين النووي في هذا الحديث : إن من ترك الصلاة عمدا يقتل . ثم ذكر اختلاف المذاهب في ذلك . وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة , وأجاب بأن حكمهما واحد لاشتراكهما في الغاية , وكأنه أراد في المقاتلة , أما في القتل فلا . والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا , بخلاف الصلاة , فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل , وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة , ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا . وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر ; للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل . والله أعلم . وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك وقال : لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين , ولا كذلك القتل . وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال : ليس القتال من القتل بسبيل , قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله .
قوله : ( فإذا فعلوا ذلك )
فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول , إما على سبيل التغليب , وإما على إرادة المعنى الأعم , إذ القول فعل اللسان .
قوله : ( عصموا )
أي : منعوا , وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء .
قوله : ( وحسابهم على الله )
أي : في أمر سرائرهم , ولفظة " على " مشعرة بالإيجاب , وظاهرها غير مراد , فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه , أي : هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع . وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر , والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة , وقد تقدم ما فيه . ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع , وقبول توبة الكافر من كفره , من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن . فإن قيل : مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد , فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد ؟ فالجواب من أوجه , أحدها : دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث , بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى ( اقتلوا المشركين ) .
ثانيها : أن يكون من العام الذي خص منه البعض ; لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب , فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم .
ثالثها : أن يكون من العام الذي أريد به الخاص , فيكون المراد بالناس في قوله " أقاتل الناس " أي : المشركين من غير أهل الكتاب , ويدل عليه رواية النسائي بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين " . فإن قيل : إذا تم هذا في أهل الجزية لم يتم في المعاهدين ولا فيمن منع الجزية , أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة , ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية .
رابعها : أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين , فيحصل في بعض بالقتل وفي بعض بالجزية وفي بعض بالمعاهدة .
خامسها : أن يكون المراد بالقتال هو , أو ما يقوم مقامه , من جزية أو غيرها . سادسها : أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام , وسبب السبب سبب , فكأنه قال : حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام , وهذا أحسن , ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة , والله أعلم