المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها
(أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم )
(حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن واصل الأحدب عن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر
بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم )
الشرح:
قوله ( بالربذة )
هو بفتح الراء والموحدة والمعجمة : موضع بالبادية , بينه وبين المدينة ثلاث مراحل .
قوله : ( وعليه حلة وعلى غلامه حلة )
هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه , لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة " أتيت أبا ذر , فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب " وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد , ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ " رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت : لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة " وفي رواية مسلم " فقلنا : يا أبا ذر , لو جمعت بينهما كانت حلة " ولأبي داود " فقال القوم : يا أبا ذر , لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة " فهذا موافق لقول أهل اللغة ; لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة , ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان , ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك , وكأنه قيل له : لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة , فتلتئم بذلك الروايتان , ويحمل قوله في حديث الأعمش " لكانت حلة " أي : كاملة الجودة , فالتنكير فيه للتعظيم . والله أعلم . وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما , فأفاد أصل تسمية الحلة . وغلام أبي ذر المذكور لم يسم , ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر , وحديثه عنه في الصحيحين . وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد .
قوله : ( فسألته )
أي : عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه ; لأنه على خلاف المألوف , فأجابه بحكاية القصة التي كانت سببا لذلك .
قوله : ( ساببت )
في رواية الإسماعيلي " شاتمت " وفي الأدب للمؤلف " كان بيني وبين رجل كلام " وزاد مسلم " من إخواني " وقيل : إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر , وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعا . ومعنى " ساببت " وقع بيني وبينه سباب بالتخفيف , وهو من السب بالتشديد وأصله القطع وقيل مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر , سمى الفاحش من القول بالفاحش من الجسد , فعلى الأول المراد قطع المسبوب , وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب .
قوله : ( فعيرته بأمه )
أي : نسبته إلى العار , زاد في الأدب " وكانت أمه أعجمية فنلت منها " وفي رواية " قلت له يا ابن السوداء " , والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربيا أو عجميا , والفاء في " فعيرته " قيل هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب , والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة , ويدل عليه رواية مسلم قال " أعيرته بأمه ؟ فقلت : من سب الرجال سبوا أباه وأمه . قال : إنك امرؤ فيك جاهلية " أي : خصلة من خصال الجاهلية . ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه , فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده , فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب " قلت : على ساعتي هذه من كبر السن ؟ قال : نعم " كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه , فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا , وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذا بالأحوط , وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة , وسنذكر ما يتعلق ببقية ذلك في كتاب العتق حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى . وفي السياق دلالة على جواز تعدية " عيرته " بالباء , وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم , وأثبت آخرون أنها لغة . وقد جاء في سبب إلباس أبي ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص , أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا ذر عبدا فقال " أطعمه مما تأكل , وألبسه مما تلبس " وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين , فأعطى الغلام نصفه , فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : قلت يا رسول الله " أطعموهم مما تأكلون , وألبسوهم مما تلبسون " قال : نعم .