كان الجو باردا, والغيوم تطارد الشمس وتحجب دفئها , ونذف الثلج الاولى , قد بدأت بالسقوط , خلف زجاج النافذة المضبب كنت اقف , ملقيا بأنظاري الى الشارع المقفر, الامن بعض السيارات المنسابة كالسهام .كان المنظر كئيبا , يفرز فيضا متدفقا من الحزن داخل النفس, ويبعث على الاشمئزاز.. احسست انه يكبس علي, ويستشري أثره في جوارحي . اشياء غريبة بدت لي عبر اسفلت الشارع , رأيت الزمن يتحول الى فوارة ماء نتن يندلق في مختلف الاتجاهات وينساب بسرعة جارفا معه كل شئ, اما المكان فقد لاح لي خاليا من أي شكال او ابعاد , وذراته شاردة لم يتحدد لها مدار. وبين الزمن والمكان بدت لي جملة من المتناقضات المقنعة بحجاب توافق وهمي و لم يفلح ذهني في استيعابه, فارتددت عائدا الى نفسي , وزغت بنظراتي جهة الرصيف , كان هناك قط رمادي الفروة يتوارى خلف صندوق قمامة , وهو يرسل مواء خافتا , وقد لاحت عليه آثار الهزال والضعف , انتابتني شحنة متواترة من الرحمة نحوه , شعرت انه ضحية لتناقضات الزمن والمكان , وأ ثر لزلة من زلات الحياة الكثيرة..
وعلى حين احسست بيدين دافئتين تطوقان خصري , ورأس يتماوج شعره يميل على كتفي ..كانت زوجتي , وجاءني صوتها هامسا
-أين تراك وصلت في تأملاتك ؟؟
اشرت بيدي الى القط المسكين وقلت :
-أتأسف لحالة هذا المخلوق ..يبدو عاجزا امام قوة الطبيعة
- كلنا عاجزون , يا زوجي العزيز امام جبروت الطبيعة وتقلباتها
- أشعر برغبة قوية في العناية به..سأنزل لاحضاره..
- لا تكن غبيا مثل هذه الحيوانات كثيرا ما تكون مريضة..او تستوطن بزغبها بعض الحشرات الطفيلية..
- لكنه سيموت من البرد ..وانا أرفض حكم الحياة الجائر عليه..
- ان موته خير من حياته , مادام عاجزا على البقاء......
لم اعلق على كلامها, وأسرعت نازلا الى الشارع . كان القط مايزال في مكانه , اقتربت منه., ثم قرفصت , وحملته بين يدي . كانت قوائمه تبدو متجمدة , وما عتمت ان عدت به الى البيت ,وضعته قرب المدفأة الحطبية , فجلس على مؤخرته ومضى يلحس فروته وقد بدا يشعر بالدفء . قلت لزوجتي :
- ارجوك هيئي له شيئا من الحليب ..
ترددت لحظة , لكنها ما لبثت ان غابت هنيهة في المطبخ , ثم عادت تحمل اناء وضعته امامه , وقالت :
- يبدو ان صداقة جديدة ستنشأ بينك وبين هذا القط اللئيم...
- ولما لا كلانا كائن حي..وكلانا ضحية لتناقضات الزمن والمكان
- ارجو ان تهبط للأرض بعض الشيء ..وتبتعد عن التجريد فانا لا افهمك.
- طبيعي انك لن تفهميني , لانك لم تحسي نحو هذا المسكين بما احس , ونظرتك له لم تتجاوز نظرة الانسان السطحية لباقي الكائنات الحية.
لم ترد علي , واقتربت من الاريكة التي كنت اجلس عليها , وقعدت على حافتها مطوقة عنقي بذراعها..
دنا القط مني , وقد انتهى من لعق اناء الحليب , ومضى يحك رأسه الى قدمي ..قرأت في عينيه المستديرتين آيات الامتنان , فحملته بحنو , ووضعته على فخدي , تكور على نفسه وغاب في غفوة نوم..
قالت زوجتي:
- اتنوي الاحتفاظ بهذا الملعون
- بالطبع يا عزيزتي ..لقد اصبح جزء من حياتنا ..وانت مدعوة للعناية به
القت بنظرة على ساعتها وقالت:
- لقد هل موعد ذهابنا عند أمي ..
-أمك!!
- انسيت اننا مدعوان للغذاء عندها
- يمكنك الذهاب ..اما أنا فسأبقى مع هذا القط المسكين حتى يألف البيت
- لا تتدله الى هذه الدرجة ياحبيبي بقطك الملعون..لكن قل لي لماذا لا تصحبه معك ونذهب...؟؟
- فكرة حسنة ..اظن ان فضلات مائدة امك ستشبع نهمه...........
محمد محضار 8/1/1986
نشرت هذه القصة بجريدة الميثاق الوطني في نفس السنة..........