الخطبة الثانية
أصيب الصحابة بالذهول لفقد نبيهم ومن ذلك ما كان من موقف عمر بن الخطاب،
يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب
موسىٰ بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد
مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال يزعمون
أنه مات.
وأقبل أبو بكر من بيته بالسنح فدخل المسجد ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على
عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حِبَرة[1]، فكشف
عن وجهه ثم أكب عليه، فقبّله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله
عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها.
ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس
إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى
الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا
يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
ٱلرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ
أَعْقَـٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ
شَيْئاً وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ [عمران:144].
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى
تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا
يتلوها، فأهوى إلى الأرض، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وفي يوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من
ثيابه، وغسله العباس وعليَّ، والفضل وقُثَم ابنا العباس وشُقْران مولى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة بن زيد، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض
سَحُولية[2] من كرسف[3] ليس فيها قميص ولا عمامة أدرجوه فيها إدراجًا،
فحفروا تحت فراشه وجعلوه لحدًا، حفره أبو طلحة ودخل الناس الحجرة أرسالاً،
عشرة عشرة، يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمهم أحد، وصلى
عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم النساء، ثم الصبيان.
فمما قال حسان رضي الله عنه يبكي به رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بطيبةَ رَسْمٌ للرسول ومَعْهَــــدُ منير وقد تعفو الرسـوم وتهمـدُ
ولا تمتحي الآيات من دار حُرمـة بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضـحُ آثار وباقـي معـالــم وربعٌ له فيـه مصلـى ومسجـد
بها حجرات كان ينــزل وسطها من الله نورٌ يستضـاء ويوقــد
معارف لم تُطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منهـا تجـدّد
إلى آخر القصيدة...
وهكذا طويت أعظم صفحة في تأريخ البشرية جمعاء، مات القدوة الناصح، وخير
البشر، مات أفضل الأنبياء، لتبقى حياته نبراسًا لأبناء الأمة من بعده،
تنير لهم طريق السير إلى الله، عبادته وأخلاقه، توحيده وجهاده، تعامله
وزهادته، أخذه وعطاؤه، بيعه وشراؤه.
إنها المصيبة التي ما مر على الأمة لها مثيل ولن يمر، فَلْيَتَعَزَّ أهل المصائب بها.