الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله العظيم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، أنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وأن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير.
وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على هذا النبي الأمي، وعلى أهله وصحبه وسلم.. آمين، أما بعد..
أيها المسلمون: تحيا أمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم معجزةً من المعجزات التي أيَّد الله سبحانه وتعالى بها حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهي كثيرة هذه المعجزات، بعضها كان ماديًّا يراه الناس؛ فقد نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وكان الغمام يظله أينما سار، وانشق له القمر، وحنَّ له جذع النخلة، وغيرها كثر، ولكن هناك معجزة كبرى لم يُتَحْ لبشر أن يطلِّعَ عليها، بَلَغَ فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم سدرةَ المنتهى وتجاوزها ليرى الآية الكبرى لله في السماوات ووصل محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى منزلة، أعلى من منزلة جبريل أقرب الملائكة لله عز وجل فعند سدرة المنتهى توقف جبريل ليتقدَّم رسول الله، وقال جبريل للرسول الكريم كل منا له مقام معلوم، أنت يا رسول الله إن تقدَّمت اخترقت وأنا إن تقدمت احترقت.
أيها المسلمون: هذه هي معجزة الإسراء والمعراج، فما من نبي صعد إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى وتجاوزها، ثم عاد في نفس الليلة ليكملَ حياته على الأرض، إلا خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أحبابَ رسول الله عندما نتحدَّث عن معجزة الإسراء والمعراج فلا بد من الحديث عن الأسباب التي سبقت المعجزة أو التي حدثت من أجلها المعجزة، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خاتم الأنبياء، وصاحب الخلق العظيم بعثه الله بالرسالة الخاتمة إلى الدنيا كلها، وأعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إعدادًا إلهيًّا لتحمل الرسالة الكبرى، خاتم رسالات السماء إلى الأرض، فجعله ربه أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ حتى لا يُقال أنه أخذ عن حضارات الأمم السابقة.
طبيعة الرسالات
وهكذا أيها المسلمون نشأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لم يجلسْ إلى معلم، ولم يعرف عن حضارة الدنيا شيئًا، ولم يقرأ حرفًا واحدًا في حياته حتى جاءه وحي السماء، وحمل رسول الله دعوة الله وأخذ يبلغ دعوة الله ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ﴾ (الأحزاب: من الآية 39) وتعرَّض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى الإيذاء بشتى أنواعه، معنويًّا.. قالوا عنه إنه مجنون، وإنه كاذب، وإنه ساحر، فصبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيضًا إيذاء بدني.. فهذا عقبة بن أبي معيط يأتي ورسول الله ساجدٌ لله رب العالمين ويحضر سلا جزور ويضعها فوق رأس النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وتأتي فاطمة بنت رسول الله وسيدة نساء أهل الجنة لتزيحَ الأذى عن أبيها وهي تبكي، ثم تعرَّض إلى إيذاءٍ نفسي في أصحابه الذين أسلموا معه، فكان يمر عليهم وهم يعذبون ولا يملك لهم من الأمر شيئًا، فكان يمر على أهل ياسر وعمار وسمية فيقول لهم: صبرًا آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة.
أيها المسلمون: يتواصل إيذاء رسول وأصحابه، بل وعشيرته، من آمن منهم ولم لم يؤمن، فكان الحصار لهم في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات، حتى أكلوا أوراق الشجر، فكما كان الحصار لرسول الله ومن معه أليمًا كان أيضًا الحصار للإسلام والمسلمين وكل ما هو إسلامي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون: ولكن صاحب الدعوة وصاحب الرسالة دائمًا يتحرك بدعوته، ويبحث لها عن مكان ينشرها فيه، ومن هنا خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يحمل دعوته ومعه خادمه زيد بن حارثة إلى الطائف، لعله يجد من يدخل في دين الله، ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وجد في الطائف قلوبًا أقسى من الحجر وما كان منهم إلا أن سلطوا عليه سفهائهم وصبيانهم يقذفون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالحجارة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وهو متعب، فجلس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى حائط بستان كان لشيبة وعتبة بن ربيعة، وفي هذه الشدة وفي هذا التعب وفي هذه المحنة يُعَلِّمُ رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الأمةَ عندما يضيق بها الحال وتتنكر لها الدنيا بأسرها فعليها باللجوء إلى الله والتضرع إلى الله والسؤال إلى الله، لحديثه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي علمه ابن عباس فقيه الأمة، وهو ما زال غلامًا: "يا غلام إني أعلمك كلماتٍ.. احفظ الله يحفظْك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يتفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف".
فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في أشد محنته يُعَلِّم الأمة أن تلجأ إلى الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وأن تسأل ربها، ولا نسأل أحد سواه، ولله درُّ القاتل:
لا تسألنَّ بنيَّ آدمَ حاجةً وسلِ الذي أبوابُه لا تغلقُ
فالله يغضبُ إن تركتَ سؤالَه وبني آدم حين يُسأل يَغضبُ
إن بني آدم حين يُسأل يغضب أيها المسلمون.. لا بد للأمة أن تتعلم من قدوتها- محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أن تلجأ إلى الله في كل أمرها، وأن تتعرَّفَ إلى ربِّها في الرضا، فيتعرف إليها ربُّها في الشدة، فرسول الله يجلس بجوار حائط البستان ويدعو الله عز وجل بهذا الدعاء الذي نحن في أمَسِّ الحاجةِ إليه، فيقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى قريب ملَّكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة.
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وباركْ على هذا النبي وعلى أهله وصحبه وسلم.. آمين.
أيها المسلمون: هكذا كان حال رسول الله في هذه الفترة، وهكذا نرى حال الأمة في هذه الفترة، ولكن عندما لجأ رسول الله إلى ربه، وعرض عليه حاله، وهو أعلم به، تحركت السماء، وتحركت الأرض، تحركت الأرض فإذا بشيبة وعتبة وهما من أعداء رسول الله يرقان له؛ فقلوب العبيد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يرسل عتبة وشيبة خادمهما عداس بقطف من العنب إلى رسول الله، وعندما أراد الرسول الطعام يُعلِّم الأمةَ ماذا تقول: فقال باسم الله، فقال عداس: إن أهل هذه البلاد لا يعرفون هذا، إنهم يعبدون الأصنام والأحجار، فسأله النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من أين أنت؟ قال من نينوي، فقال الرسول الكريم: من بلد العبد الصالح يونس بن متى، فقال له عداس: أتعرفه؟ قال هو أخي، هو نبي، وأنا نبي، فانكب عداس، يقبل رأس ويد الرسول الكريم، وشيبة يقول لعتبة: لقد أفسد عليك غلامك، هذه استجابة الأرض، وكانت استجابة السماء أن نزل أمين وحي السماء جبريل ومعه ملك الجبال والبحار والأراضين، يعرض على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن يهلك أهل مكة ومن جاورهم، لتنكرهم لدعوة رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الرحمة المهداه والنعمة المسداة قال: "لا يا أخي يا جبريل، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله"، فقال جبريل: صدق من سماك الرءوف الرحيم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الحج)، هكذا أيها المسلمون كانت محنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ثم زادت المحنة بوفاة زوجه الحنون خديجة رضي الله عنها خط دفاعه الأول، ثم بعدها بقليل كانت وفاة عمه خط دفاعه الثاني، فنالت قريش من رسول الله ما لم تستطع أن تناله من قبل، فكانت معجزة الإسراء والمعراج، وكأنَّ الله يقول له يا محمد إذا كان أهل الأرض تنكروا لك ولدعوتك ولم يعرفوا لك قدرك ومقدارك، فهلم إلينا إلى السماوات العلا، إلى سدرة المنتهى، إلى حضرة الرب الجليل، حيث سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صرير أقلام القدر: اللهم عافنا واعف عنا، وعلى طاعتك أعنا، ومن شرور خلقك سلمنا، وإلى غيرك لا تكلنا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
منقول