المكان مقصف الكلية.
الزمان الصباح .
موسيقى غربية تصدح من الحاكي. الطلبة والطالبات يتناولون إفطارهم.
كان يجلس في أقصى اليمين وحيدا، أمامه هلالية وكوب قهوة سوداء، وفي يده تحترق لفافة تبغ رخيص، عيناه كانتا زائغتين، لاتكادان تثبتان على شيء، وجهه كانت تعلوه صفرة وشحوب، على مقربة منه كانت تجلس طالبتان، سمراء وشقراء، كانتا تدخنان
بنهم، وتدردشان بلغة فرنسية خالصة، قالت الشقراء:
- البارحة يا صديقتي، قضيت ليلة ممتعة مع شاب لطيف وسخي، تصوري أنه دعاني للعشاء بفندق النفيس، وفي الفيلا التي قضينا بها بقية الليل، قدم لي هذا الخاتم من الماس. افترثغر الفتاة السمراء عن ابتسامة مغرية، وقالت:
- إنك ساحرة ياعزيزتي ، وعيونك الزرق تستعبد كل الرجال.
- ردت الشقراء: عيب صديقي الوحيد أنه متزوج .. لكن لايهم ما دام يصرف علي بسخاء.
- لابد أنه ابن لأحد كبار الميسورين.
- بل هو رجل أعمال يملك مصنعا للمربى، وثلاثة مقاهي..
- والله وقعت ياصديقتي، وعرفت أين تقعين، سيملأ جيوبك ذهبا، فلا تضيعي الفرصة، إنه كنز ثمين.
غيرت الفتاة الشقراء جلستها، ووضعت ساقا على ساق، فانحسر ثوب تنورتها، وتجاوز ركبتيها بعدة سنتيمترات، أشعلت لفافة تبغ، نفثت دخانها بانتشاء وقالت:
- ترى أين وصلت فصول حكايتك، مع ذلك المهووس بحبك، الذي يطاردك؟
-أتعنين صاحب قصائد الغزل؟؟؟؟
- نعم
-إنني أشفق عليه من أفكاره المتخلفة، فهو على ما يبدو، مازال يعيش بعقلية عصور الأزمنة الحجرية، ويحتاج إلى من يغيره.. تصوري أنه يغرقني بالقصائد، رغم جفوتي له، وتجاهلي إياه.
- إنني أكره هذا النوع التقليدي من الشبان.
- لكنهم يقولون أنه النوع الأكثر إخلاصا.
- أنا يا صديقتي لا أفهم شيئا في الإخلاص، ولا أؤمن بالمعنويات، والميثاليات..نظرتي للحياة مادية صرفة..
ألقت الفتاة السمراء نظرة على ساعتها، رفعت رأسها إلى صديقتها وقالت:
- هل ستحضرين حصة علم البصريات؟
- لا .. فقد مللت من ثرثرةذلك الأستاذ العجوز وتلقينه العقيم .. وأنت؟
- أنا أيضا لن أحضر.
غادرت الفتاتان المقصف تحت وابل من نظراته الجائعة، تراقصت ببابله جمل الحوار الذي دار أمامه. شعر بالاحتقار إزاء نفسه، دب الوهن في أعضاء جسده، وتغلغل في أعماقه، رسم القرف على سحنته ألوانا متمازجة من انعدام الرغبة والدونية.
الإنسان يحس أحيانا إذا تمادى في التفكير،أنه يعيش دون هدف، دون غاية، وأن خصوصياته مهدورة، وفرديته غائبة، بالمقارنة مع البعض الآخر، ممن جادت عليهم الأقدار باليسر، وسعة الحال، فهم يتمتعون بلب الأشياء، ويتذوقون قيمة الحياة بحق، أما أمثاله، فإنهم يكتفون بالفتات، ويقنعون بالأشياء الأقل جودة.
ترك المقصف، التحق بالمدرج الثالث، كان الأستاذ الفرنسي قد بدأ في إلقاء محاضرته حول تكوين الخلية، جلس في الخلف، ضاعت نظراته بين الوجوه، لم يكن يسمع شيئا، أو يفهم شيئا.
انتهت المحاضرة عاد إلى البيت، قابلته أمه بأسمالها البالية، وأسنانها الصفراء البارزة، تجاهلها ودخل غرفته الضيقة التي يتقاسمها مع أخيه، ارتمى على السرير الخشبي، وغاب في لجة من الأفكار، تبعته أمه، اِقتربت من السرير، قرفصت، مدت يدها المغضنة، ولمست شعره بحنو ثم قالت:
- مالك يا بني.. لماذا أنت على هذا الحال؟
.
رفع رأسه تأملها مليا،رد عليها بتجاهل:
-لاشيء،أشعر ببعض الصداع في رأسي، وأريد أن أرتاح، أدخلت يدها في جيب سروالها البلدي، وأخرجت حرزا منقما بالصمغ مدته له قائلة:
خد هذا الحرز ، ضعه في جيبك، فقد خططته لك عند جارنا الفقيه بوجدرة، سيحميك من عين البشر، ويساعدك في دراستك.
أخذ منها الحرز، ألقى عليه نظرة ازدراء، ثم رمى به من النافذة المفتوحة وصرخ في وجهها:
-كفى.. دعيني أعيش الواقع كما هو.
-لكن يا بني، حرز الحاج بوجدرة فيه البركة!
-بوجدرة محتاج إلى من يمنحه البركة، إنه مجرد مشعوذ أفاق، يضحك على السذج والبسطاء.. -أرجوك أُتركيني أرتاح.
خرجت الأم تجر أذيال الخيبة، وتلعن هذا الزمن وجيله العاق. خيم صمت رهيب على الغرفة الضيقة.. استعاد صاحبنا من جديد شروده، وغاب في عالم أحلام اليقظة يعب منه فهو عزاء فاقد الشيء في هذا الأيام الشاحبة.
محمد محضار مراكش 1980
نشر هذا النص بجريدة بالعلم يوم 22 غشت 1985
__________________